مرحلة ما بعد غزة- تحديات جسام ومقاومة متجددة

المؤلف: د. سعيد الحاج09.21.2025
مرحلة ما بعد غزة- تحديات جسام ومقاومة متجددة

إن العدوان الأخير على غزة لا يختلف عن سابقاته من حيث المدة الزمنية، والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى ما يتركه من آثار بعيدة المدى، ويحمله من دلالات عميقة، وتداعيات ستطال المنطقة بأسرها، وتضعها أمام منعطف حاسم، خاصة فيما يتعلق بالصراع المحتدم مع الاحتلال.

النتائج

تشير البيانات الأولية إلى تكبد قوات الاحتلال خسائر فادحة، حيث قُتل ما يزيد على 900 ضابط وجندي خلال المعارك، بالإضافة إلى مئات القتلى في صفوف المستوطنين، وهو أعلى رقم يسجله الاحتلال منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. هذا بالإضافة إلى تضرر الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير، مما استدعى طلب حزم مساعدات مالية ضخمة ومباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن موجات الهجرة المعاكسة، وتزعزع الشعور بالأمن لدى العديد من الإسرائيليين، وخاصة قاطني مستوطنات غلاف غزة والشمال.

في المقابل، تشير التقديرات الميدانية إلى أن عدد الشهداء في قطاع غزة قد تجاوز الستين ألف شهيد، غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال، وما زال الآلاف من الشهداء، يقدرون بالـ11 ألف، تحت الأنقاض حتى هذه اللحظة الراهنة.

وعلى صعيد البنية التحتية، يمكن الجزم بأن الاحتلال قد دمر أكثر من نصف البنية التحتية لقطاع غزة بشكل ممنهج، وفي مقدمة ذلك المرافق الحيوية كالمؤسسات الحكومية والمستشفيات والمراكز الصحية، بالإضافة إلى تدمير معظم المنازل تدميرًا كليًا أو جزئيًا، وتحويلها إلى ركام.

أما فيما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية، فقد أعلنت حركة حماس، عقب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، عن فقدان عدد كبير من قادتها السياسيين البارزين وعلى رأسهم رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، ونائبه الشهيد صالح العاروري، وكذلك الرئيس الحالي للحركة في غزة، يحيى السنوار، وأغلبية أعضاء المكتب السياسي في غزة، بالإضافة إلى عدد من قادة الحركة في الضفة الغربية والخارج، فضلاً عن قادة الفصائل الفلسطينية الأخرى.

وعلى الصعيد العسكري، نعى الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، "أبو عبيدة"، القائد العام لهيئة أركان القسام، محمد الضيف، ونائبه مروان عيسى، وقادة ثلاثة من الألوية العسكرية، وعددًا من قادة الأركان، إضافة إلى تقديرات بارتقاء العشرات من القادة الميدانيين ومئات/آلاف المقاتلين في صفوف القسام وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة.

تحديات جسام

على الرغم من الخسائر الجسيمة والتضحيات الهائلة التي قدمتها غزة، فقد أوقف الاحتلال عدوانه الغاشم دون أن يحقق أهدافه المعلنة على نطاق واسع، مثل القضاء التام على المقاومة الفلسطينية، وتصفية قدراتها العسكرية، واستعادة أسراه بالقوة العسكرية، فضلاً عن الفشل في تحقيق النتائج الإستراتيجية بعيدة المدى للحرب، والمتعلقة بالردع الحاسم، واستعادة القدرات العسكرية، والحفاظ على التلاحم الداخلي، وتحسين صورة "إسرائيل" الباهتة أمام المجتمع الدولي، واستعادة تفوقها العسكري في المنطقة، وغير ذلك من الأهداف التي تم تفصيلها في مقالات سابقة.

ومع أخذ كل هذه العوامل في الاعتبار، وخروج المقاومة الفلسطينية من الحرب أكثر قوة وتماسكًا وصلابة، وثبات المواطنين على أرضهم وإفشال كافة مخططات التهجير القسري، على الرغم من التضحيات التي لا يمكن للغة أن تصفها، إلا أن هناك تحديات جمة وكبيرة تنتظر غزة والمقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية برمتها في المرحلة القادمة.

وفي مقدمة هذه التحديات، الاحتمالية الواردة لعودة الاحتلال إلى شن عدوان جديد على غزة، بعد الانتهاء من صفقات تبادل الأسرى، سواء بعد المرحلة الأولى أو بعدها بالكامل، وهو ما تواترت حوله تصريحات "إسرائيلية" وأخرى منسوبة للرئيس الأميركي الجديد، وهنا تبرز الأهمية القصوى لرسائل القوة والندية التي تبعثها المقاومة الفلسطينية دون زيادة أو مبالغة.

أما على الصعيد العملي، فتتصدر عمليات الإغاثة وإعادة الإعمار الشامل، وعلاج الجرحى والمصابين والمرضى، وتقديم الدعم الكامل للمواطنين المتضررين، وغيرها من الملفات الملحة في الجانب الإنساني، والتي بات من المؤكد أن "إسرائيل" تسعى جاهدة لإبطائها وتقويضها؛ سعيًا منها لإدامة المعاناة الإنسانية كأداة ضغط سياسية على المجتمع الغزّي ومقاومته الباسلة، في المرحلة الراهنة، وعلى المدى البعيد.

وهذا تحدٍّ كبير وخطير لا تكفي معه القدرات الفلسطينية الذاتية المحدودة، بل ينبغي أن تتكاتف جهود العالمين العربي والإسلامي عمليًا وبشكل عاجل وسريع، بالإضافة إلى ممارسة الضغط المطلوب على الاحتلال الإسرائيلي للإيفاء بالتزاماته وواجباته تجاه الشعب الفلسطيني.

ولا يزال مشروع تهجير أهالي قطاع غزة إلى الخارج، بشكل كلي أو جزئي، قائمًا، بعد أن أفشله الغزّيون ومقاومتهم الباسلة مرارًا وتكرارًا خلال الحرب، وتحديدًا بصمودهم الأسطوري في شمال غزة المحاصر، ثم بمشاهد العودة المهيبة إلى البيوت المدمرة.

إلا أن هذا المشروع لم ينتهِ بالكامل ولم يتخلَ عنه الاحتلال بشكل نهائي، حيث تتردد أصداء تؤكد ذلك على لسان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي يشير باستمرار إلى ضرورة استضافة عدد من الدول، وفي مقدمتها مصر والأردن، لسكان قطاع غزة. وغني عن البيان أن إعاقة عمليات الإغاثة والدعم والإعمار تعتبر جزءًا أساسيًا من محاولة تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة، كأحد الروافد الأساسية لمشروع التهجير.

وعلى الصعيد السياسي، لم تنتهِ بعد مشاريع الاحتلال المدعومة غربيًا فيما يتعلق باليوم التالي للحرب في غزة، أو غير ذلك من المخططات، ولكن مشروع تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" ومحيطها العربي والإقليمي يحتاج إلى اهتمام خاص ومضاعف. فقد جمدت عملية "طوفان الأقصى" مسار التطبيع بشكل مؤقت، لكن الإدارة الأميركية تسعى جاهدة لتفعيله كجزء من صفقة متكاملة الأركان.

وفي صميم أهداف كل ما سبق وغيره من المخططات، يكمن استمرار المساعي الحثيثة لتجريف المقاومة الفلسطينية وتجريمها وتحجيمها والقضاء على جدواها العسكرية والسياسية، وتقويض الدعم الشعبي لها، ومحاولة ترسيخ سردية زائفة تجعلها هي – لا الاحتلال – المسؤولة عن الخسائر الفادحة والتضحيات الجسيمة والمعاناة المريرة التي يعيشها أهالي قطاع غزة.

ولا شك أنه على الرغم من المكاسب الكبيرة التي حققتها القضية الفلسطينية على المدى البعيد، فإن الاستمرار في المقاومة بأشكال وأساليب مختلفة ومتنوعة ومبتكرة، وانعكاس ذلك على الشارع الغزي بشكل خاص، سيظل تحديًا كبيرًا للغاية.

مرحلة جديدة

في مقدمة الدلالات العميقة لعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تلاها من أحداث جسام، ثم وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، تكمن حقيقة أن "إسرائيل" قد فقدت كل أركان إستراتيجيتها الأمنية القائمة على الردع والإنذار المبكر والدفاع والحسم العسكري وغير ذلك من المفاهيم، وبالتالي انهارت الأساطير الزائفة التي كانت تروج بأن أحدًا لن يجرؤ على مهاجمتها، فضلاً عن تكبدها هزيمة نكراء.

وفي المقابل، فإن المقاومة الفلسطينية – وحاضنتها الشعبية وشعبها الأبي – قادرة على ترميم خسائرها وتعويض ما فقدته والبناء من جديد في المستقبل القريب. ومع ذلك، فإنه مما لا جدال فيه أن غزة بحاجة ماسة إلى فترة راحة طويلة الأمد، تضمد فيها جراحها العميقة، وتتجاوز أزماتها المتفاقمة، وتعيد بناء نفسها من جديد، خاصة وأن أي مواجهة قادمة قد تبدأ مباشرة من حيث انتهت المواجهة الحالية، وهو ما عوّدنا عليه الاحتلال الإسرائيلي، وشجعه على ذلك الدعم الغربي المطلق والصمت العربي والإقليمي المخزي.

لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية المواجهة أو انتهاء القضية الفلسطينية أو الاكتفاء من غاية المقاومة، بمعناها الأعم والأوسع دلاليًا وجغرافيًا وإستراتيجيًا.

لقد أظهرت هذه الحرب الوجه القبيح الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي، وما يضمره للمنطقة بأسرها وليس فقط لقطاع غزة، وفي مقدمة ذلك الإبادة الجماعية والجرائم المروعة ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي يندى لها جبين الإنسانية، وهو ما يفترض أن يكون كافيًا لمراجعة مختلف الأنظمة في المنطقة لموقفها المتخاذل منه ومن العلاقات المشبوهة معه في الحاضر والمستقبل.

إن "إسرائيل" اليوم، وعلى الرغم من إخفاقها العسكري والأمني والسياسي الذريع في غزة، تسعى مرة أخرى لتجسيد مشروع "إسرائيل الكبرى"، وربما ما هو أبعد من ذلك، من خلال مشاريع احتلال واستيطان جديدة في الضفة الغربية وجنوب لبنان وسوريا، وتهديد إيران واليمن والعراق، وكذلك مشروع تهجير الفلسطينيين قسرًا نحو مصر والأردن، والتي تبدو مدعومة بقوة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

وفي المقابل، وعلى الرغم من أن الأنظمة الحاكمة لم تستشعر بعدُ بشكل كامل حجم المتغيرات الجوهرية التي أفرزها "طوفان الأقصى" المبارك، إلا أن تأثيراته العميقة على النخب والشعوب العربية لا يمكن الاستهانة بها مطلقًا. لقد كان صمود غزة الأسطوري في وجه العدوان الإسرائيلي عام 2008، وبسالة مقاومتها الباسلة، جنبًا إلى جنب مع الموقف الرسمي العربي المتخاذل، من بين الدوافع الرئيسية لاندلاع الثورات العربية في عامي 2010 و2011، وهذه الحرب الأخيرة لا تقارن بتلك الحرب لا من حيث بشاعة العدوان وهمجيته ولا من حيث صمود المقاومة الأسطوري ولا من حيث الخذلان الرسمي العربي.

ومن أهم تبعات "طوفان الأقصى" المبارك، مسألة الوعي المتزايد؛ وعي الجميع بحقيقة "إسرائيل" وما تضمره للمنطقة بأسرها وليس فقط للفلسطينيين، متى ما سنحت لها الفرصة، وهي الآن، وتحديدًا مع عودة ترامب المحتملة، تظن أنها قادرة على القيام بتغييرات جذرية في المنطقة.

وفي المحصلة النهائية، وعلى المديين المتوسط والبعيد، سيشتبك الجميع مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء باختيارهم أو رغماً عنهم، وفي التوقيت الذي يناسبهم أو في التوقيت الذي يفرضه عليهم هذا الاحتلال الغاشم. إن الحقائق الدامغة والوقائع الملموسة والثغرات الأمنية التي تكشفت مع هذه الحرب تساهم بشكل كبير في بناء وعي جديد في مجمل المنطقة وعلى جميع المستويات، كما أن الخطط والمشاريع التي أخرجت من الأدراج "الإسرائيلية" تنبئ بتغييرات جذرية في المنطقة بأسرها، مما يستدعي من الجميع الوقوف بجدية أمام مسؤولياتهم التاريخية.

لقد نفذ الاحتلال الإسرائيلي جريمة إبادة جماعية بالمعنى الكامل للكلمة في قطاع غزة، مستهدفًا البشر والحجر والشجر وعلى جميع المستويات، لكنه لم يستطع كسر الإرادة الصلبة للشعب الفلسطيني، فانتصرت المقاومة الفلسطينية وترسخت فكرتها وثبت نموذجها الفريد، وهذا ما رآه وفهمه الفلسطينيون كما "الإسرائيليون" ومعهم جميع المراقبين في المنطقة والعالم.

وقد حفلت هذه الحرب بدروس جمة وعميقة، تكشف بعضها تدريجيًا، وسيتكشف البعض الآخر مع مرور الوقت، بما يساهم في التفاعل الإيجابي مع المعطيات والحقائق الجديدة لترسيخ تداعيات "طوفان الأقصى" طويلة الأمد على دولة الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية والمنطقة بأسرها على حد سواء.

وفي الخلاصة، لم تستطع "إسرائيل" تهجيرَ الشعب الفلسطيني ولا القضاء على المقاومة الباسلة، وبالتالي فقد فشلت فشلاً ذريعًا في تصفية القضية الفلسطينية، فأدخلتها (القضية) وأدخلت المنطقة العربية بأسرها في مرحلة جديدة ومختلفة من الصراع معها، وهو ما ستتضح معالمه ومحاوره وديناميته أكثر فأكثر مع مرور الوقت وتكشّف الحقائق الدامغة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة